تاريخ :الرباط - 6 نونبر 2000
نص الخطاب الملكي السامي الذي وجهه صاحب الجلالة الى الشعب المغربي بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لانطلاق للمسيرة الخضراء
“الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله ؤاله وصحبه
شعبي العزيز
في مثل هذا اليوم الأغر منذ خمس وعشرين سنة خلت أعطى والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني أكرم الله مثواه إشارة انطلاقة المسيرة الخضراء المظفرة.
لقد انبثقت تلكم الملحمة التاريخية الفريدة عن العبقرية والحنكة النافذة لأبينا جميعا وحققت للمغرب استرجاع أقاليمه الجنوبية المغتصبة بتلاحم العرش والشعب وقوة الإيمان والجنوح الى الوسيلة السلمية الحضارية والاحتكام للشرعية الدولية لاسترجاع الصحراء المغربية.
إننا ونحن نحتفي اليوم بهذه الذكرى العزيزة علينا جميعا بكل إجلال وإكبار لنستحضر الولاء المكين لرعايانا الأوفياء بأقاليمنا الجنوبية لجلالتنا ولعرشنا العلوي المجيد ووطنيتهم الوحدوية الصادقة والتحامهم بإخوانهم في سائر جهات المملكة ضمن إجماع وطني متجدد وفي ظل الإستقرار والأمن والطمأنينة.
لقد كانت المسيرة الخضراء شرعية في أهدافها وسلمية في وسائلها. ومنذ انطلاقتها ظل المغرب مخلصا للنهج السلمي ملتزما بالمشروعية الدولية ومتمسكا بالأسلوب الحضاري للحوار والاعتدال سباقا إلى اتخاذ المبادرات البناءة مثابرا على الاستجابة لكل المساعي الحميدة من أجل الطي النهائي للنزاع المفتعل حول استكماله لوحدة ترابه.
وبعدما اتضح للمنتظم الدولي أن مناورات الطرف الآخر قد أدخلت مخطط التسوية الأممي في طريق مسدود وتنفيذا لقرار مجلس الأمن الذي حث الأطراف المعنية على اقتراح السبل الكفيلة بإيجاد حل نهائي ودائم للنزاع المفتعل بادر الأمين العام للأمم المتحدة السيد كوفي عنان بتكليف مبعوثه الشخصي السيد جيمس بيكر باستكشاف هذه السبل مع الأطراف المعنية.
فاستجاب المغرب كعادته لهذه المبادرة الأممية وقدم في شهر يونيو خلال لقاء لندن اقتراحات مفصلة ومدروسة لمعالجة ما استعصى من نقط في المخطط الأممي.
كما اقترح في شهر شتنبر خلال لقاء برلين على الطرف الآخر إجراء حوار صريح وهادف لدراسة إمكانية التوصل لحل سياسي في ظل السيادة المغربية والوحدة الوطنية والترابية وفي إطار احترام المبادىء الديمقراطية وتفعيل اللامركزية الواسعة والجهوية التي من شأنها تمكين جميع أبناء الأقاليم الجنوبية من تدبير جهتهم وتنميتها لجعلها صرحا منيعا وركيزة قوية من ركائز الدولة المغربية الموحدة.
وعلى الرغم من استمرار الأقلية المغرر بها في تبني المواقف المتعنتة لأعداء وحدتنا الترابية – ضدا على إرادة المجتمع الدولي والقوى الفاعلة فيه التي ثمنت عاليا مواقف المغرب الإيجابية والبناءة- فإننا على يقين أن رعايانا الأوفياء المحتجزين في تيندوف يدركون ألا مستقبل ولا عزة لهم إلا في وطنهم المغرب حيث يمكنهم العيش بكرامة في ظل الديمقراطية الحقة التي ينعم بها جميع إخوانهم في سائر جهات مملكتنا.
إنك تعلم شعبي العزيز مدى العناية الخاصة التي نوليها لأقاليمنا الجنوبية ولرعايانا الأوفياء هناك لتعويضهم عن سنوات الحجر والاستعمار وتبويئهم المكانة التي يستحقونها بين أبناء وطنهم. وقد بذلت الدولة مجهودات جبارة في جميع القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية لتنمية هذه الأقاليم وخاصة في مجال تشغيل أكبر عدد من أبنائها وتأهيل البعض الآخر ليندمج في النسيج الاقتصادي الإقليمي والوطني.
وإننا لعازمون على مضاعفة الجهد لتجنيد كل الكفاءات لضمان العيش الرغيد والآمن لكل رعايانا في هذه الأقاليم لجعلها قطبا من أقطاب الازدهار الاقتصادي والاجتماعي الذي ننشده لكافة جهات مملكتنا والذي تحظى فيه الجهات الجنوبية بمكانة الصدارة في عنايتنا.
ومهما كان تقديرنا لمنجزاتنا فإنه لاينسينا مأساة رعايانا المحتجزين في تيندوف الذين يعيشون ظروف الاستعباد ويخاطرون بحياتهم من أجل الالتحاق بوطنهم الأم. فلهم نقول.. إن ساعة الفرج آتية لاريب فيها وأن المغرب لن يألو جهدا لرفع الحصار عنهم. كما نجدد للأقلية المغرر بها وصية وعهد والدنا المنعم “إن الوطن غفور رحيم”.
وكيفما كانت تطورات الملف فإننا كخديم أول لك مؤتمن على وحدتك الوطنية والترابية نجدد لك شعبي العزيز ما أكدناه في خطاب العرش من أن أي حل لن يكون إلا في إطار الإجماع والسيادة الوطنية والشرعية الدولية.
ومثلما استرجعنا صحراءنا بالتعبئة الشعبية في المسيرة الخضراء المظفرة ضمن صفوف مجندة فإننا سنكسب بإذن الله النزاع المفتعل حولها بمزيد من التعبئة الوطنية الشاملة سؤ من طرف أجهزة الدولة أو مؤسساتها أو من طرف كافة الهيئات السياسية والنقابية والجمعوية التي نهيب بها مضاعفة الجهود داخليا بتأطيرك وتعبئتك اليقظة حول قضيتنا الوطنية المقدسة وخارجيا بالتصدي الحازم لمناورات وأضاليل أعداء وحدتنا الترابية والتعريف بعدالة موقفنا في جميع المحافل الدولية رسمية كانت أو شعبية.
شعبي العزيز..
إن فلسفة المسيرة الخضراء التي اعتمدت السلم والشرعية لاسترجاع الأرض المغتصبة هي نفسها التي حكمت موقف المغرب من قضية قومية مقدسة والتي لخصها الشعب المغربي في الشعار النبيل المعبر.. الصحراء مغربية وفلسطين عربية.
وقد كان المغرب رائدا في الدعوة للحل السلمي العادل والشامل والدائم للنزاع العربي الإسرائيلي على قاعدة الشرعية الدولية وبما يتيح استرجاع كل الأراضي العربية المغتصبة وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
ومن هذا المنطلق كان المغرب قد فتح مكتب اتصال مع إسرائيل كقناة لتشجيع العملية السلمية بيد أن تنكر الحكومة الإسرائيلية للشرعية الدولية وعدولها عن خيار السلام وتماديها في انتهاج منطق العدوان السافر ضد الشعب الفلسطيني الأعزل قد جعلنا نبادر إلى إغلاق هذا المكتب.
وقد اتخذنا هذا القرار انسجاما مع توجهاتنا السلمية والشرعية ودعما لإخواننا الفلسطينيين ونهوضا بأمانة رئاستنا للجنة القدس الشريف وحملا للطرف الإسرائيلي على الإذعان لقرارات الشرعية الدولية والانصياع لخيار السلام الذي نؤمن بحتميته وسنظل عاملين على تحقيقه.
إن موقفنا تجاه الحكومة الإسرائيلية ليس بصادر عن تعصب عرقي أو طائفي أو عقائدي. كما أنه لا يعني تحللنا من أمانتنا الدينية والتاريخية والدستورية في الحفاظ على حقوق وحريات ومقدسات رعايانا ذوي الديانة اليهودية إسوة بكافة مكونات أمتنا التي تمازجت عبر التاريخ في ظل التسامح والتساكن والاحترام المتبادل للمقدسات الدينية.
ولن نسمح في إطار دولة الحق والقانون التي نحن لها ضامنون بأي مساس بحريات وأمن وممتلكات ومقدسات رعايانا الأوفياء أيا كانت عقيدتهم. وليعلم الجميع أننا حريصون على سيادة القانون والشرعية وأن أي مساس بهما سيعرض مرتكبيه لعقوبات قضائية.
شعبي العزيز..
في سياق الالتحام بين المسيرتين الوحدوية والديمقراطية وتفعيلا لما أعلنا عنه في خطاب العرش من توسيع فضاء الحريات وإنجاز خطوات متقدمة على درب تدعيم دولة الحق والقانون فقد أعدت الحكومة مشاريع قوانين تتناول بالإصلاح والتحيين مدونة الحريات العامة المتعلقة بتأسيس الجمعيات والتجمعات العمومية والصحافة.
ويهدف هذا الإصلاح على وجه الخصوص إلى تعزيز حريات التجمع والاجتماع والتعبير وتبسيط المساطر الإدارية وإلغاء العقوبات السالبة للحرية أو التقليص منها لفائدة الغرامات المالية.
كما يهدف إلى سن قواعد جديدة ومدققة لضمان شفافية وسلامة وشرعية توسيع الموارد المالية الداخلية والخارجية للفاعلين الجمعويين وتقوية دور السلطة القضائية في مراقبة شرعية القرارات الإدارية المعللة بقوة القانون وحماية قدسية الثوابت الوطنية والحرص على الانسجام مع تقاليدنا الدينية والحضارية والتشريعات الدولية لحماية حقوق الإنسان في مجال نبذ العنصرية والكراهية والعنف والتمييز على أساس ديني أو طائفي أو المساس بحرية الغير.
وسنعمل على تفعيل أي إصلاح لقوانين الحريات العامة من مبدأ ائتماننا الدستوري على صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات ومن منطلق حرصنا على حماية وصيانة التوازن بين الحرية والنظام العام وبين الحريات الجماعية والحرية الفردية.
فلنستمر شعبي العزيز في استلهام روح المسيرة الخضراء مترحمين على روح مبدعها أب الأمة أكرم الله مثواه وعلى أرواح جميع شهداء الوحدة الترابية وفي طليعتهم أفراد قواتنا المسلحة الملكية والدرك الملكي والأمن الوطني والقوات المساعدة ومعتزين ببسالة ضباطنا وجنودنا الأشاوس المرابطين في ثغور الصحراء ومنوهين بما أبانوا عنه من رباطة جأش واستماتة في أداء واجبهم المقدس لحماية ذلك الجزء الغالي من وطننا العزيز من كل عدوان.
ولنتحلى بفضائلها من أجل مضاعفة الجهد لمواصلة المسيرات الوحدوية والديمقراطية والتنموية التي نخوضها جميعا لكسب الاستحقاقات الكبرى التي تنتظر المغرب.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.